التخطيط التنموي في تونس- من الاستقلال إلى الشعبوية.. رؤية بديلة؟

المؤلف: عماد الدائمي09.21.2025
التخطيط التنموي في تونس- من الاستقلال إلى الشعبوية.. رؤية بديلة؟

منذ فجر الاستقلال عام 1956، تبنت الدولة التونسية التخطيط التنموي كأداة محورية لتحقيق الازدهار الاقتصادي والارتقاء بالأوضاع الاجتماعية وترسيخ أركان المؤسسات الوطنية.

وعلى مر العقود الماضية، تمكنت تونس من تأسيس تقاليد راسخة وآليات إجرائية دقيقة ومنهجيات متكاملة ومؤسسات مركزية وقطاعية وجهوية متخصصة في إعداد الخطط وتنفيذها وتقييم نتائجها.

ورغم أن التخطيط المركزي ساهم في إرساء بنية تحتية متينة في القطاعات الصناعية والتعليمية والصحية، وهي إنجازات لا يمكن إنكارها لتونس مقارنة بالعديد من الدول النامية، إلا أن الآمال العريضة التي صاحبت هذا النهج اصطدمت بتحديات جسيمة حالت دون تحقيق "المعجزة الاقتصادية" الموعودة، أو الارتقاء إلى مصاف الدول الصاعدة.

وبعد ثورة تونس المجيدة في عام 2011، التي اندلعت مطالبةً بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، سنحت فرصة تاريخية لإعادة النظر في نموذج التنمية المتبع، ورسم مسار جديد يتجنب كل عوامل الإخفاق السابقة.

إلا أن جملة من العوامل المتداخلة، الداخلية والخارجية، تضافرت لتعرقل تحقيق القطيعة الجذرية مع النهج الماضي. ففي الفترة ما بين "مخطط الياسمين" الذي أعقب الثورة مباشرة، و"المخطط الخماسي 2016-2020" الذي انقضى أجله دون تحقيق غاياته الاستشرافية، برز تساؤل جوهري: هل تحتاج تونس حقًا إلى مخطط تنموي جديد بنفس الطريقة التقليدية، أم أنها بحاجة إلى مراجعة شاملة لنموذجها التنموي ومقاربتها في التخطيط؟

ولكن، قبل التوصل إلى مقاربة فعالة ومبتكرة تجيب عن هذا السؤال المصيري، تعرض النهج القائم، موضع التساؤل، إلى نكسة قوية جراء الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة التي بلغت أوجها في 25 يوليو/تموز 2021، حين تم الانقلاب على الديمقراطية، ودخلت البلاد في مرحلة الحكم الفردي الشعبوي.

ومنذ ذلك الحين، تحول "التخطيط التنموي" إلى مجرد أداة بيروقراطية جوفاء تُستخدم لتبرير قرارات فردية عشوائية، ومقاربات ارتجالية غير مدروسة، مثل التوجه نحو مركزة مفرطة للدور الاقتصادي للدولة، وتبني نماذج اقتصادية غير مجدية كالشركات الأهلية، التي افتقرت إلى آليات واضحة للتمويل والإدارة. وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بوتيرة متسارعة وخطيرة تهدد استقرار الدولة وأمن المجتمع.

وفي ظل هذا النظام السلطوي، الذي يفتقر إلى التشاركية والانفتاح على كل مكونات المجتمع، يبرز تساؤل مشروع: هل يمكن أن ينجح التخطيط التنموي في ظل نظام شمولي، يفتقر إلى الكفاءة والخبرة التقنية والإرادة الحقيقية لتحقيق تنمية مستدامة؟

هذا المقال يسلط الضوء على مسيرة التخطيط في تونس منذ الاستقلال إلى ما بعد الثورة، ثم ما بعد الانقلاب، مع التركيز على المحطات الرئيسية والتحولات الجوهرية، قبل أن يقدم قراءة نقدية معمقة للمقاربة المتبعة على مدى العقود الماضية، وصولًا إلى رسم ملامح رؤية استشرافية بديلة تتناغم مع التطورات المتسارعة في العالم، بهدف إنقاذ البلاد من دوامة إعادة إنتاج الفشل التنموي.

أولًا: الجذور التاريخية للتخطيط التنموي في تونس

مرحلة ما بعد الاستقلال (1956- أواخر الخمسينيات)

عقب الاستقلال، واجهت الدولة التونسية تحديات جسيمة تتعلق ببناء المؤسسات السيادية، وتحقيق حد أدنى من الاكتفاء الاقتصادي والاجتماعي. وكحال العديد من الدول التي نالت استقلالها حديثًا، تأثرت تونس بالتوجهات الاشتراكية والتخطيط المركزي الذي كان شائعًا في دول المعسكر الاشتراكي، وفي عدد من الدول الرأسمالية أيضًا (مثل فرنسا) التي تبنت هي الأخرى نوعًا من التخطيط التوجيهي بعد الحرب العالمية الثانية.

سعت الدولة التونسية الفتية إلى اعتماد خطط تنموية ثلاثية أو خماسية للتركيز على القطاعات الاستراتيجية الحيوية: الصناعة الثقيلة والزراعة والتعليم والصحة.

ومنذ الخطة الأولى، تجسد لدى السلطة المركزية ميل قوي نحو قيادة المبادرات التنموية، سواء من حيث تعبئة الموارد المالية، أو تحديد المشاريع الاستثمارية، أو تهيئة المناطق الصناعية.

من التأميم إلى الليبرالية ثم الإصلاح الهيكلي والانفتاح المحدود

مر الاقتصاد التونسي بمجموعة من التحولات الكبرى:

  • مرحلة التأميم (1961–1965): تحت تأثير التيارات الاشتراكية والتعاضديات، حاولت الدولة توجيه النشاط الاقتصادي بقبضة مركزية، لكن هذه التجربة لم تدم طويلًا بسبب محدودية الإمكانات وتزايد المقاومات المجتمعية.
  • مرحلة الانفتاح الليبرالي (السبعينيات من القرن الماضي): بدأت الدولة في تشجيع الاستثمار الخاص والسياحة في الشريط الساحلي للبلاد، وفسحت المجال أمام الشراكات الأجنبية وتدفق رؤوس الأموال الخارجية في مشاريع ذات قيمة مضافة متواضعة وطاقة تشغيلية عالية تعتمد على أجور منخفضة، مع بقاء التخطيط حاضرًا في صورة موجِّه.
  • مرحلة الإصلاح الهيكلي (الثمانينيات): تحت وطأة المؤسسات المالية الدولية، واجهت تونس أزمة مديونية خانقة، واضطرت إلى اعتماد برنامج الإصلاح الهيكلي الذي قيد حرية القرار التنموي بالشروط الخارجية. وتعمق الارتباط بالخارج دون سياسات تحرير اقتصادي شاملة في التسعينيات وما بعدها، خاصة بعد توقيع اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في عام 1995.

في جميع هذه المسارات، ظل إعداد الخطط والبرامج التنموية السنوية مرتبطًا ببنية بيروقراطية راسخة: (مندوبية عامة للتنمية الجهوية، دواوين تنمية، مندوبيات جهوية، لجان قطاعية…). وقد اكتسبت الدولة على مر العقود تقاليد وآليات إجرائية واضحة توثق في تقارير تقييمية دورية. إلا أن سؤال الفاعلية ظل مطروحًا مع كل خطة خماسية أو ثلاثية جديدة.

ثانيًا: إنجازات محدودة وتكلفة اجتماعية باهظة

على الرغم من النتائج الإيجابية التي حققها التخطيط على مستوى توسيع شبكة البنية التحتية: (طرقات، كهرباء، مياه…) والارتقاء بمعدلات التعليم وتحسين المؤشرات الاجتماعية نسبيًا، إلا أن العوامل التالية أضعفت أثر الخطط التنموية في تحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود:

التفاوت الجهوي: إذ تركزت أغلب الاستثمارات العامة الكبرى في الشريط الساحلي، وبدرجة أقل في مناطق قريبة من المراكز الحضرية الرئيسية، مما أدى إلى تعميق الفجوة بين الساحل والداخل.

وعلى الرغم من إدراج مشاريع تنموية في بعض الخطط المتعاقبة للجهات الداخلية، إلا أن نسبة الإنجاز ظلت ضعيفة، وبقيت البطالة والفقر والتهميش الجهوي من أبرز التحديات.

استفحال الاقتصاد الريعي: حيث ساهمت طبيعة التخطيط المركزي، إلى جانب هيمنة الحزب الحاكم قبل الثورة، في خلق نسيج اقتصادي تهيمن عليه الرخص والامتيازات التي تحتكرها عائلات نافذة ولوبيات موالية للنظام القائم.

وقد ترسخ هذا الوضع مع البرامج التنموية القُطرية التي غالبًا ما كانت خاضعة لاعتبارات سياسية ومصالح شخصية ضيقة.

تغيّر السياسات وتناقضها: مع تغيير الحكومات أو انتقال البلاد من توجه اشتراكي إلى آخر ليبرالي، كانت استراتيجيات التنمية تتعرض للتبديل أو الإلغاء أو المراجعة الجذرية، مما أفقدها عنصر الاستمرارية الضروري.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم توسع المديونية وعجز الميزانية في تهميش أهداف الخطط نفسها، إذ إن الحكومات المتعاقبة خضعت لشروط المانحين، مما انعكس سلبًا على مبدأ السيادة الوطنية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية.

غياب التقييم الشامل والشفاف: إذ اعتادت الإدارات الجهوية والمركزية تقديم تقارير مرحلية وجزئية، تبين مدى تقدم تنفيذ المشاريع المرصودة في كل ولاية أو قطاع، لكن هذه الآلية البيروقراطية لم تترجم إلى تقييم وطني شامل قادر على ربط تلك النسب ومؤشرات الإنجاز بالأهداف الكبرى: كالعمالة والعدالة الاجتماعية والابتكار والتصدير وضمان الأمن الغذائي، أو تحقيق التوازنات الكبرى. وبالتالي، ظل التخطيط يدور في حلقة مفرغة: إعداد خطة جديدة دون تقييم حقيقي لما سبقها.

هذه العوامل مجتمعة خلقت مناخًا متوترًا على مدى عقود، تجلى في تنامي الاحتقان الاجتماعي، وبرزت أوضح صوره في انتفاضة الحوض المنجمي في عام 2008، ثم في اندلاع الثورة في عام 2011، التي كان فشل التنمية أحد أهم العوامل البنيوية المؤدية إليها.

ثالثًا: الثورة التونسية وفرصة التغيير الضائعة

مع اندلاع الثورة وسقوط نظام بن علي، كانت تونس أمام فرصة فريدة لإعادة هندسة منظومتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي قلبها النموذج التنموي. إذ تعلقت الآمال بأن يجري استثمار الزخم الشعبي الهائل ورحيل نظام الحزب الواحد، لطرح مقاربة تنموية تشاركية جديدة تتجاوب مع روح الثورة وتطلعات الشارع التونسي. لكن الواقع جاء مغايرًا:

الانشغال بالمسار السياسي وغياب الرؤية التنموية: حيث تحول الاهتمام سريعًا إلى الصراع الأيديولوجي حول النموذج المجتمعي، وإلى الجدال السياسي والدستوري حول إدارة المرحلة الانتقالية وطبيعة النظام السياسي وتقاسم الصلاحيات التنفيذية. وأهمل النقاش حول صياغة برنامج اقتصادي- اجتماعي ثوري قادر على التصالح مع الجهات المحرومة ودعم المبادرات الشبابية. وترك الملف الاقتصادي التنموي بين أيدي البيروقراطية الإدارية ولوبيات المصالح الداخلية والجهات المانحة الخارجية.

ظهور "مخطط الياسمين": وهو مخطط تنموي خماسي أعدته الحكومة المؤقتة برئاسة الباجي قائد السبسي (2011) بتنسيق من وزير المالية آنذاك جلول عياد، وبدعم من اتحاد الأعراف. وقد روج للمخطط بأنه سيجعل من تونس "سنغافورة المتوسط". غير أن إعداده افتقر إلى تشاركية فعلية، حيث تم الاتكال على مكاتب دراسات دولية ومقترحات مجموعة الثماني في مؤتمر "دوفيل" بفرنسا في مايو/ أيار 2011.

وجاءت النتيجة في شكل مجلد أنيق من الوعود المالية والأرقام المرتفعة لخلق مليون موطن شغل وتعبئة 125 مليار دينار…، بالارتكاز على فرضية نسب نمو لا تقل عن 5٪ سنويًا، دون أدنى إنجاز فعلي على أرض الواقع.

غياب التصور الاقتصادي لدى الحكومات الانتقالية: حيث إن حكومتَي الترويكا (2012-2013) اعتمدتا بدرجة كبيرة على ما ورد في "مخطط الياسمين". إذ لم تبلورا رؤية تنموية جديدة تتناسب مع خيارات ثورية طالبت بتكريس العدالة الاجتماعية والقطع مع الفساد والاقتصاد الريعي. وغادرتا الحكم دون منجز اقتصادي يذكر.

ثم جاءت حكومة المهدي جمعة (2014) لتعمق الانخراط في منطق الاستدانة مقابل تقديم تعهدات للمؤسسات المالية الدولية بإجراء إصلاحات هيكلية تقشفية. وفي الأثناء، باتت دوائر القرار التنموي ذات صبغة خارجية أكبر مع لجنة قيادة دولية فيها شخصيات رسمية أجنبية، لإعداد دراسات استراتيجية لم تنشر للعموم ولم تعرض على البرلمان، مما أثار تساؤلات حول شفافية الخيارات التنموية في فترة ما بعد الثورة.

رابعًا: مخطط 2016-2020: الكثير من النوايا ونتائج باهتة

في ظل حكم الباجي قائد السبسي رئيسًا للجمهورية، والحبيب الصيد رئيسًا للحكومة، بدأ إعداد المخطط الخماسي للتنمية 2016-2020 في يوليو/تموز 2015. كان الهدف المعلن هو القطع مع الآليات القديمة وإشراك المواطنين والمجتمع المدني في تحديد الأولويات الجهوية، مع اعتماد "وثيقة توجيهية" تعد بمثابة الرؤية الاستراتيجية. غير أن العملية شهدت عدة هنات، من أبرزها:

دور مكاتب الدراسات الأجنبية: حيث لجأ وزير التنمية ياسين إبراهيم أولًا إلى بنك الأعمال الفرنسي "لازار" للمساعدة في إعداد المخطط وتسويقه. ثم استبدل بـ"أرجيل" و"كومات" و"جون أفريك" وبمشاركة "دومينيك ستروس كان" المدير السابق لصندوق النقد الدولي.

ورغم إلغاء التكليف الأول تحت ضغط التساؤلات حول الشفافية والسيادة والمصلحة الوطنيتين، فإن الاتكال الكامل على خبرات خارجية بقيت مسألة ضبابية.

تواصل المنهجية التقليدية بنكهة "تشاركية" محدودة: إذ إنه مع تضييق الآجال وشيوع البيروقراطية، بقيت القنوات الرسمية؛ (المجالس الجهوية، دواوين التنمية…)، هي المهيمنة على العملية. واكتفي بجرعات من الاستشارات المحدودة مع المنظمات الاجتماعية وبعض ممثلي المجتمع المدني في الجهات. فكانت النتيجة مخططًا ضخمًا من الأهداف والنوايا دون قلب حقيقي لموازين السياسات ولا وضع خطط تمويلية واقعية.

التعويل على "الإصلاحات الكبرى" بإملاءات خارجية: إذ ركز المخطط المذكور، وكذلك تصريحات المسؤولين الحكوميين حينها، على "إصلاح الدولة والإدارة"، وتنفيذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية؛ وهي في معظمها مطالب قديمة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لا تنسجم بالضرورة كلها مع مسار تطوير اقتصاد تضامني أو الحد من التفاوت الطبقي والجهوي.

تقييم محدود الأثر: حيث جاء موعد انتهاء المخطط الخماسي الأول بعد الثورة بنهاية سنة 2020 دون أن تتحقق النسب المتوقعة من النمو أو توفير مواطن الشغل أو تقليص الفقر والتفاوت الجهوي.

وعاد الحديث عن ضرورة تقييم النتائج. بيد أن العادة الإدارية في تونس رسخت نمطًا من "التقييم" الإحصائي – الأقرب إلى التقدم المادي للمشاريع من حيث الإنجاز المالي والفني- بدل تقييم النموذج ككل في ضوء أهداف التنمية المستدامة أو أهداف الثورة.

فاقد الشيء لا يعطيه! كان من الخطأ انتظار تغيير جوهري في منهجية التخطيط من حكومة صرح وزيرها للإصلاحات (توفيق الراجحي) أن وضع البلاد لا يتطلب نموذجًا تنمويًا جديدًا وإنما فقط "إصلاحات" في النموذج السابق، مؤكدًا أنه "لو لديك سيارة ولاحظت أنها ليست ناجعة بما فيه الكفاية فأنت لا تغير كل شيء في مرة واحدة بل تتطرق إلى أصل المشكل ثم لا تغير إلا الذي يجب تغييره وتحافظ على الباقي"!!

كان الكثير من التونسيين يتوقعون أن الهدف الرئيسي للثورة تعويض العربة المعطلة التي عجزت عن إيصالنا إلى بر الأمان بعربة جديدة منسجمة أكثر مع واقعنا، بمحرك قوي ونظيف وفعال ومقتصد (الدولة) ودفع ذاتي وعدل في الرفاهية بين كل الركاب، وقدر كبير من الأمان والسلامة ووضوح في الرؤية ومرونة في الحركة مع ثبات في الاتجاه وقدرة على الوصول إلى الوجهة المحددة. فأصبح المطلب بعد خمس سنوات من الثورة مجرد إصلاحات ترقيعية في هيكل متهالك يندفع بسرعة متزايدة نحو حائط أملس.

خامسًا: الخيبة التنموية وخروج القطار عن السكة المهترئة

في بداية 2021، نشرت مقالًا في جريدة الصباح التونسية تساءلت فيه إن كانت البلاد ما زالت بحاجة إلى مخطط خماسي جديد. وبينت فيه آنذاك، عدم جدوى الدخول في مغامرة إعداد مخطط خماسي جديد (2021-2025) بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، في ظل الأوضاع المعقدة التي كانت تعيشها البلاد. حيث كانت الأزمة السياسية على أشدها بسبب تشظي المشهد الحزبي وتصاعد الصراعات الأيديولوجية وتنازع الصلاحيات بين مختلف الرئاسات والمؤسسات.

وكان الوضع الاقتصادي في أسوأ حالاته في أعقاب مرور جائحة كوفيد-19، وما خلفته من تفاقم لعجز الموازنة، وتدهور قيمة الدينار، وازدياد نسب البطالة، وإفلاس مئات المؤسسات الصغرى والمتوسطة المتأثرة بالجائحة، مع تصاعد التوتر والإضرابات في أكثر من قطاع وجهة.

كل هذا في ظل تراجع ثقة المانحين والمستثمرين، بسبب تعطل الإصلاحات الهيكلية وعدم استقرار المناخ السياسي. وقلت آنذاك إن الأولوية ليست إعداد مخطط خماسي يوزع على مشاريع قد يعجز تمويلها وقد لا تحظى بالتوافق اللازم؛ بل تقتضي الواقعية إعداد "برنامج إنعاش اقتصادي وتضامن اجتماعي" يمتد لأربع سنوات، لإنقاذ النسيج الاقتصادي والاجتماعي، على أن يتم، في الأثناء، فتح حوار وطني حقيقي حول نموذج التنمية المقبل، على مستوى النخب والفاعلين السياسيين والمجتمع المدني والمواطنين عمومًا، حتى تعرض المخرجات كبرامج واضحة أثناء المحطات الانتخابية المقبلة.

ما حصل إثر ذلك كان تعطل مسار إعداد المخطط الخماسي (2021-2025) لقرابة السنتين، ثم الانطلاق في إعداد مخطط ثلاثي للفترة الممتدة من 2023 إلى 2025، بشكل بيروقراطي في إطار شكلاني محدود، بعيدٍ عن أي روح تشاركية جدية أو حوار مجتمعي، في ظل أوضاع سياسية جديدة تمثلت في الانقلاب على الدستور وحل البرلمان، وتجميع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية وقمع الحريات واستهداف الأحزاب والمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني.

وهو ما أفرز مخططًا أحاديًا باهتًا فضفاضًا، تعطلت المصادقة عليه من طرف مجلس الوزراء لمدة عامين كاملين، حيث صودق عليه من حكومة أحمد الحشاني يوم 9 مارس/ آذار 2024.

وانسجامًا مع طبيعة المرحلة المرتكزة على الشعارات الشعبوية، تم ربط المخطط الثلاثي 2023-2025 أثناء إعداده بمشروع "رؤية تونس 2035″، التي تم تقديمها من طرف رئيس الحكومة ذاته باعتبارها تمثل "نموذجًا تنمويًا جديدًا يرتكز على التجديد والإدماج والاستدامة". وتم إعدادها من طرف الإدارة بدعم تقني من طرف الوكالة الألمانية للتنمية GIZ. "نموذج تنموي جديد" لم يشارك في إعداده أو مناقشته أحد لا في المنتظم السياسي ولا المجتمع المدني ولا حتى في البرلمان.

وفي شهر يوليو/ تموز 2024، أعلنت فريال الورغي وزيرة الاقتصاد والتخطيط عن الانطلاق في إعداد المخطط الخماسي 2026-2030، مستندة إلى رؤية تونس 2035، ومعتمدةً على مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التقسيم الترابي الجديد للبلاد إلى خمسة أقاليم، حيث سيتم وضع مخطط تنموي خاص بكل إقليم.

خلال السنوات الأخيرة، أصبح التخطيط التنموي نوعًا من الشكلانية الإجرائية المفرغة من أي مضمون جدي والفاقدة لأي تشاركية حقيقية في الإعداد ولأي ارتباط بالواقع. وأصبحت الفرضيات والأهداف المرقمة وهمية خيالية توضع على الورق دون أن تتبعها جهود حقيقية في الإنجاز وتحويلها إلى واقع.

سادسًا: ما هي المقاربة البديلة للتخطيط التنموي في تونس؟

في ظل الواقع السياسي الراهن، حيث تخضع تونس لحكم استبدادي غير شرعي، تظل الأولوية الوطنية الملحة هي استعادة الشرعية الديمقراطية، وإعادة بناء نظام سياسي يستند إلى ديمقراطية ناجزة ومستدامة، تتجاوز هشاشة التجارب السابقة.

ومع السعي لتحقيق هذا الهدف المحوري، ينبغي علينا التفكير في ابتكار مقاربة جديدة للتخطيط التنموي تكون قادرة على توجيه البلاد نحو نموذج تنموي جديد يضع الإنسان ورفاهيته كقيمة أساسية. هذا التوجه يتطلب استلهام التجارب الناجحة عالميًا، والاستفادة من إطار أهداف التنمية المستدامة 2030، مع مراعاة خصوصيات الواقع التونسي.

لن يكون من المجدي ومن المقبول مستقبلًا أن يفرض أي مخطط تنموي قادم من طرف الإدارة البيروقراطية المركزية أو اللوبيات الريعية، ثم يأتي السياسيون إثر ذلك لتبني شعاراته ثم التملص من نتائجه.

حالما تعود البلاد إلى مناخات شرعية ديمقراطية، يجب العمل على أن يكون الشأن التنموي في قلب اهتمام النخب السياسية، وأن تكون البرامج الاقتصادية والاجتماعية في صلب التنافس الانتخابي عوضًا عن الانشغال بالحروب الأيديولوجية والسياسية التي أثرت سلبًا على مسار التنمية في البلاد.

في هذا السياق، يجب أن يكون النموذج التنموي مستقبلًا محور حوار وطني إدماجي تشاركي، من أجل بناء رؤية وطنية جامعة تتضمن ثوابت يتفق عليها الجميع، مثل السيادة الاقتصادية والأمن الغذائي والمائي والطاقي والبيئي، وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، والانتقال الرقمي، مع ترك التفاصيل للتنافس البرامجي بين الأحزاب، وآليات التنفيذ للحكومات.

لا بد من تجاوز المنهجية التقليدية للتخطيط التنموي، المعتمدة على الاستشارات القطاعية والجهوية بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، والمرتكزة على تجميع مقترحات المشاريع من الوزارات المختلفة ووضعها في ملف واحد دون رؤية جامعة وخيط ناظم.

ولا مناص من أن تنطلق عملية التخطيط مستقبلًا من تقييم شامل وشفاف، لا يقتصر على نسب إنجاز المشاريع المبرمجة، بل يشمل مؤشرات التنمية البشرية والتنافسية والحوكمة والفساد، ومدى التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) السبعة عشر، ومدى التقدم في تحقيق الإصلاحات الكبرى، مع التركيز على أثر المشاريع الكبرى على الفئات الهشة والجهات المهمشة.

التخطيط التنموي في تونس يجب أن يضع الإنسان في صميم اهتماماته، من خلال التركيز على تحسين جودة التعليم والرعاية الصحية، وتعزيز العدالة الاجتماعية عبر تقليص الفجوات الجهوية والاجتماعية وخلق فرص عمل كريمة وشاملة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون السياسات التنموية مرنة وتستجيب لتغيرات السياق المحلي والدولي، مع التركيز على دعم التحول الرقمي كوسيلة لتحسين كفاءة الخدمات وتعزيز التنافسية الاقتصادية. كما يتعين دعم الشباب والمبادرات الريادية من خلال توفير التمويل والبنية التحتية المناسبة لتحفيز الابتكار وريادة الأعمال.

تمويل التنمية في ظل شح الموارد وارتفاع المديونية يتطلب حلولًا مبتكرة تشمل تحفيز الشراكة بين القطاعين؛ العام والخاص، وتطوير أدوات تمويل تشاركية مثل الصكوك الإسلامية والصناديق الوقفية وسندات المشاريع، وإشراك الجاليات التونسية بالخارج ضمن منظومة استثمار شفافة. كما يمكن تعزيز اللامركزية الجبائية لتمكين الجهات المحلية من تعبئة موارد إضافية لدعم خططها التنموية.

ولا يمكن تحقيق هذه الرؤية دون استعادة ثقة المواطنين والشركاء الدوليين، من خلال محاربة الفساد وتحسين مناخات الأعمال، وتمكين الجهات والفئات المحرومة. ولا شك أن بناء الثقة يحتاج إلى إرادة سياسية جادة ومشروع إصلاحي شامل يعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة ويعزز الشفافية والمساءلة.

خاتمة واستشراف

على مدى ما يقارب سبعة عقود من التخطيط التنموي في تونس، تذبذب الأداء بين مكاسب لا يمكن تجاهلها في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية وتحسين المؤشرات الأساسية، وبين إخفاقات هيكلية عميقة في مجالات التشغيل والحد من الفقر والتفاوت الجهوي والفساد والارتهان للدوائر المالية الدولية.

وجاءت الثورة لتفتح أفقًا واسعًا لتجديد المقاربات التنموية وتحويلها من "مجرد تجميع مشاريع متناثرة" إلى رؤية وطنية تشاركية جامعة. إلا أن السياقات السياسية المتقلبة بعد الثورة، وغياب الرؤية الواضحة، أديا إلى إعادة إنتاج جزء كبير من المنظومة التنموية السابقة، وإن تغيرت شعاراتها وأشكالها. ثم جاءت مرحلة الشعبوية لتعيد التخطيط التنموي إلى طور المركزية المفرطة المرتهنة للإرادة الفردية الأحادية العاجزة.

لقد أدى فشل "النموذج التنموي" لنظام الحزب الواحد في تونس إلى اندلاع ثورة أطاحت بذلك النظام وغيرت الجغرافيا السياسية في كامل المنطقة. وسيقود الفشل الذريع لأنظمة ما بعد تلك الثورة ونظام ما بعد الانقلاب في إرساء التنمية المنشودة والارتقاء بواقع المواطن إلى هزات لا يعلم مداها و ارتداداتها إلا الله.

لذا، وبينما تناضل النخب التونسية لاستعادة الديمقراطية، يقع على عاتقها واجب العمل على صياغة رؤية تنموية جديدة بمنهجية مبتكرة، تضع الأسس لتنمية شاملة ومستدامة قوامها رفاهية الإنسان. رؤية تواكب المرحلة المقبلة من الديمقراطية الناجزة والمستدامة، القادمة لا محالة، لأن ذلك يتماشى مع مسار التاريخ. وكما قال محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة